الثقوب السوداء

ماذا حدث قبل 8 مليارات سنة حين ابتلع ثُقب أسود نجمًا سيئ الحظ؟

ماذا حدث قبل 8 مليارات سنة حين ابتلع ثُقب أسود نجمًا سيئ الحظ؟

في وقت سابق من هذا العام، وبينما كانت عدسات المرصد الأوروبي الجنوبي الواقع بدولة شيلي تجوب السماء الصافية لجمع البيانات كالمعتاد، رصد التلسكوب مصدرًا غير معتاد للضوء المرئي؛ إذ أصدرت أجهزة الكمبيوتر أزيزًا عاليًا، وقتها هُرع العلماء وأمروا التلسكوب العظيم VLT -الذي يتكون من 4 أجزاء كل واحد منها يعمل بمرآة باتساع 8 أمتار و4 تلسكوبات مساعدة- بتتبُّع مصدر ذلك الضوء.

وبسرعة، حرك علماء آخرون تلسكوب التقنية الجديدة المدمج في مبنى المرصد نفسه لمساعدة التلسكوب العظيم على أداء مهمته، كان الضوء يتجه بسرعة نحو كوكب الأرض، حللت أجهزة الكمبيوتر ذلك الضوء، وقارنته بمئات من الأحداث – وربما بآلاف منها- رُصدت في الماضي، لكن الأمر كان مختلفًا في تلك المرة؛ فالضوء يأتي من أعماق الكون السحيقة الموغِلة في القدم، ويبدو أنه ناجمٌ عن تمزيق نجم أكله ثقب أسود على حين غرة.

ووفق دراسة نشرتها دورية “نيتشر أسترونومي” (Nature Astronomy) اليوم “الأربعاء”، 30 نوفمبر، كان مصدرَ الضوء “ثقبٌ أسود في مجرة بعيدة التهمت ذلك النجم سيئ الحظ، وطردت بقاياه في صورة موجات هائلة وصل ضوؤها أخيرًا إلى كوكبنا الأزرق بعد أن قطع مسافة تُقدر بنحو 8.5 مليارات سنة ضوئية كاملة”.

اكتشاف أحداث نادرة

يقول “إيجور أندريوني”، عالِم الفلك بجامعة ماريلاند الأمريكية ومركز جودارد لرحلات الفضاء-ناسا، والمؤلف المشارك في الدراسة: تلك هي المرة الأولى التي يُعلن فيها حدث مثل التهام ثقب أسود لنجم عن وجوده بالضوء المرئي، وهو أمرٌ يوفر طريقةً جديدةً لاكتشاف هذه الأحداث النادرة للغاية.

يضيف “أندريوني” في تصريحات لـ”للعلم”: تكشف نتائج الدراسة مصدرًا مشرقًا جديدًا للضوء في السماء، وتخبرنا بقصة ثقب أسود هائل أكل نجمًا، ربما كان يشبه شمسنا، منذ مليارات السنين، لكن لا داعي للقلق؛ فهذا لن يحدث للشمس!

قوى هائلة

في عام 1971، قدم العالم المُتخصص في دراسة الثقوب السوداء “جون ويلر” مفهومًا جديدًا كُليًّا، قال “ويلر” إنه “حين يقترب نجمٌ بدرجة كافية من ثقب أسود فائق الكتلة، يتمدد النجم قبل أن يبتلعه الثقب الأسود، ويشبه ذلك الأمر أنبوبًا من أنابيب معجون الأسنان يلتصق في المنتصف ويتعرض لضغوط كبيرة تُجبره في نهاية المطاف على الانفجار من طرفيه”.

ينجم عن تلك العملية -التي يُطلق عليها اسم “أحداث الاضطراب المدي” (TDEs)- إطلاق دفقات شديدة السطوع من المواد بعد أن يُمزق الثقب الأسود النجم الذي يقترب -مجرد اقتراب- منه.

فالنجوم التي تتجول بالقرب من الثقب الأسود تمزقها تلك القوى الهائلة للثقب الأسود، والناجمة عن الجاذبية المهولة التي تتمتع بها تلك الثقوب، ويتكسر النجم في الغلاف الجوي للثقل الأسود الدوار، وتنطلق منه انبعاثاتٌ نفاثة من البلازما والإشعاع تستطيع الهرب من قوى الجذب العملاقة للثقب، في حين يسقط النجم المنكوب داخل الثقب الأسود الذي يأكل بقاياه فيتلاشى في جوفه، تاركًا وراءه موجات من أشعة “جاما” تسافر في الفضاء بسرعة الضوء.

اضطرابات نادرة

يقول “أندريوني”: تُعد أحداث الاضطراب المدي نادرةً جدًّا، لقد اكتشف الفريق البحثي نوعًا خاصًّا من تلك الاضطرابات نادرة بأكثر من 100 مرة من الاضطراب المدية العادية.

ويضيف: يُطلق الاضطراب المكتشف “نفاثات” مضيئة من المواد في اتجاهين متعاكسين بسرعة الضوء تقريبًا، ولا يزال سبب حدوث هذه الحالات القليلة لغزًا حتى الآن.

تم جمع مجموعة متنوعة من الضوء الناجم عن تلك الظاهرة بداية من أشعة جاما عالية الطاقة إلى موجات الراديو ESO/M. Kornmesser

ويمكن أن يوفر رصد هذه الاضطرابات المدّية فرصةً لدراسة كيفية نمو الثقوب السوداء فائقة الكتلة من خلال تراكُم المادة؛ فعندما يُسحب نجم سريع نحو ثقب أسود، يمكن أن يتمزق ويمكن أن تسقط مادته على قرص تراكم الثقب الأسود، وفي بعض الحالات، تولد المواد المتراكمة نفاثاتٍ قويةً من المادة، وفي حالات نادرة جدًّا يمكن أن تؤدي إلى إنتاج سطوع تسافر بسرعة قريبة من سرعة الضوء، لكن هذه الأحداث نادرة وغير مفهومة جيدًا.

تم جمع مجموعة متنوعة من الضوء الناجم عن تلك الظاهرة، من أشعة جاما عالية الطاقة إلى موجات الراديو، بواسطة 21 تلسكوبًا حول العالم، ثم قارن الفريق هذه البيانات بأنواع مختلفة من الأحداث المعروفة، من النجوم المنهارة إلى الكيلونوفا، وهي أحداث فلكية لاندماج نجمي نيوترون أو نجم نيوتروني وثقب أسود في نظام ثنائي، لكن السيناريو الوحيد الذي يطابق البيانات كان يشير فقط إلى حدوث اضطراب القوى المدية من نوع خاص.

و”الكيلونوفا” هي ظاهرة كونية نادرة نسبيًّا، يُقدر حدوثها بمرة واحدة فحسب كل 10 آلاف سنة في مجرة مثل مجرة درب التبانة؛ ذلك لأن النجوم النيوترونية، التي تنتج عن انفجارات السوبرنوفا، نادرًا ما تتكون في ثنائيات.

التهام النجم المسكين

من جهته يقول “ألكسندر تشيكوفسكوي”، أستاذ الفيزياء المساعد وعلم الفلك في جامعة نورث ويسترن، وغير المشارك في الدراسة: “إن هذا الاكتشاف يمنحنا الفرصة لدراسة ثقب أسود نائم في الكون البعيد؛ فالضوء المنبعث من هذا الحدث قد سافر لنحو 8.5 مليارات سنة، مما يعني أنه حدث عندما كان الكون في نصف عمره الحالي تقريبًا”.

يضيف “تشيكوفسكوي”: يحمل ذلك الضوء الموغل في القدم بيانات من شأنها أن تكشف لنا العديد من المعلومات عن تلك الظاهرة المدّية النادرة، لا يُمكن للمرء أن يُشاهد ظاهرةً مثل تلك إلا مرةً واحدةً في العمر، والأمر الأكثر إثارةً للدهشة أن هذه الظاهرة نجم عنها رصد لضوء في جميع النطاقات بدايةً من الأشعة تحت الحمراء وحتى الطيف الكهرومغناطيسي إلى الضوء المرئي مرورًا بالأشعة السينية والأشعة فوق البنفسجية، وهذا يعني أن عملية التهام ذلك النجم المسكين أسفرت عن انبعاث كمٍّ ضخم ومهول من الضوء.

في حين يقول “أندريوني”: إن ملحوظات المتابعة أكدت أن المصدر -الذي أطلق عليه الباحثون اسم AT2022cmc- هو من أكثر المصادر العابرة ندرةً وأكثرها سطوعًا على الإطلاق، وإن اكتشافه “سيُسهم في فهم أفضل للفيزياء المتطرفة للثقوب السوداء”.

ويضيف: تجد الطبيعة دائمًا طرقًا جديدة لمفاجأتنا، إن الأجسام التي تبدو هادئةً في كثير من الأحيان مثل الثقوب السوداء يُمكن أن تتسبب في بعض الأحداث المفاجئة الأكثر نشاطًا مما يوفر لنا فرصةً فريدةً لمعرفة المزيد عن كيفية عمل الكون في الظروف القاسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى