مرصد «ويب» الشهير يتحول إلى تلسكوب
بعد عدة أيام شابها التوتر، شهِدت نشر القطع المختلفة وتركيبها في أماكنها، اكتمل بناء أكبر تلسكوبات الفضاء وأكثرها تعقيدًا.
في الثامن من يناير، أنزل طاقم تلسكوب الفضاء «جيمس ويب» James Webb، التابع لوكالة ناسا الأمريكية، ببطء وحرص، القطع الثلاث الأخيرة من أصل 18 قطعة سداسية عاكسة، إلى أماكنها، لتكوِّن معًا عينًا مطليةً بالذهب عرضها 6.5 أمتار، تُطل على الكون، وجاءت هذه الخطوة لتُنهي أسبوعين من المناورات الهندسية، لم يحدث فيهما أي خطأ، لتصبح بذلك أكثر عملية تركيب فلكية في الفضاء تعقيدًا، منذ إطلاق التلسكوب في يوم عيد الميلاد.
وقال بول هيرتز، مدير قسم الفيزياء الفلكية بوكالة ناسا الأمريكية في واشنطن العاصمة: “إن عمليات تركيب تلسكوب «ويب» سارت على نحوٍ مثالي”.
وتقول أنتونيلا نوتا، العالِمة المسؤولة عن مشروع «ويب» في وكالة الفضاء الأوروبية: “أشعر ببهجة شديدة، نحن الآن جزءٌ من التاريخ، إذ نشهد تجهيز هذه الآلة الرائعة لاستكشاف الكون”.
لا يزال المرصد، الذي تبلغ قيمته 10 مليارات دولار أمريكي، بحاجة إلى إتمام مهمات كبرى، من بينها ضبط قطع المرايا ومعايرة أدواته العلمية الأربع، لكنه الآن انتهى من الخطوات الهندسية الأكثر خطرًا، والتي من دونها لم يكن ليصبح قابلًا للتشغيل، شملت هذه الخطوات تركيب حاجب شمسي على شكل طائرة ورقية، بحجم ملعب تنس، لحماية التلسكوب من حرارة الشمس، وضبط وضع المرآة الرئيسية والثانوية بغرض التقاط الضوء القادم من النجوم والمجرات والأجسام الكونية الأخرى.
والآن تتردد الفوتونات بين مرآتي «ويب»، ما يجعله مرصدًا جاهزًا للعمل، وحسبما قال بيل أوكس، مدير مشروع «ويب» بوكالة ناسا الأمريكية، في بث عبر شبكة الإنترنت في الخامس من يناير، من مقر قيادة المهمة بمعهد علوم تلسكوبات الفضاء في بالتيمور بولاية ماريلاند الأمريكية: “هذا أمرٌ لا يصدق، نحن نملك الآن تلسكوبًا بالفعل”.
خطوات واثقة
تلسكوب «ويب»، الذي انطلق من محطة الفضاء الأوروبية في كورو، بمدينة جويانا الفرنسية، يبعد عن الأرض الآن أكثر من مليون كيلومتر، ومن المفترض أن يصل التلسكوب إلى وجهته النهائية، عند نقطة استقرار الجاذبية في الفضاء، والمسماة L2، في الثالث والعشرين من يناير، ومن هناك، سيدرس التلسكوب ظواهرَ فلكيةً من بينها أبعد مجرات الكون، والنجوم الوليدة المحاطة بالغبار والأغلفة الجوية للكواكب خارج المجموعات الشمسية.
وعلى العكس من التلسكوب السابق، تلسكوب الفضاء «هابل»، يمكن لـ«ويب» رصد الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء، وهذا يتيح للتلسكوب النظر إلى نطاقات لم تُستكشف من قبل، لكن ذلك أيضًا يتطلب أن يعمل التلسكوب في درجات حرارة شديدة الانخفاض، لكي يتمكن من رصد الإشارات الحرارية الطفيفة القادمة من أرجاء الكون البعيدة، ولتحقيق هذه البرودة، يؤدي حاجب الشمس المزودُ به «ويب» دورًا أساسيًّا في ذلك.
لكن ذلك الأمر هو ما أقلق كثيرًا من العلماء بشأن فتح التلسكوب ونشره في موضعه؛ فبعد إطلاق التلسكوب، تعيَّن فتح منصتين مستطيلتين تحتويان الحاجب الشمسي، ومد الأغطية الحامية الخاصة بالتلسكوب، ثم سحبه ليتخذ شكل طائرة ورقية، وأخيرًا شد طبقاته الرقيقة الخمس، وقد خضعت هذه العملية لعدة اختبارات في مختبرٍ على الأرض، لكنها لم تُختبر في ظروف انعدام الجاذبية في الفضاء، لذا كان من الممكن أن تحدث مشكلات غير متوقعة.
يضيف هيرتز: “أظنني كنت أشعر بالتوتر من مجرد تركيب شيء ضخم ومفكك على هذا النحو”، فالحاجب الشمسي غير موجود في أي مرصد فضائي آخر، لذا فهو شيء “جديد وغير مألوف”.
كان من المحتمل أن تفشل أي خطوة من خطوات التركيب فشلًا ذريعًا، لكن ذلك لم يحدث، ونجح شد آخر طبقات الحاجب الشمسي للتلسكوب حتى بلغت التوتر المضبوط في الرابع من يناير، وتقول هيلاري ستوك، المهندسة بشركة «نورثروب جرامان» Northrop Grumman، ومقرّها ريدوندو بيتش بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وهي الشركة التي صممت الحاجب الشمسي: “كان هذا النجاح مبهجًا ومريحًا للغاية”، ويقول هيرتز إن هذه النقطة مثلت اللحظة التي لم يعد يشعر بالقلق بعدها.
لكن علماء آخرين ظلوا يشعرون بالقلق حتى اليوم التالي، الذي جرى فيه تركيب المرآة الثانية، وتضمنت هذه العملية فتح قائمٍ ثلاثي مفصلي ضخم أمام المرآة الرئيسية للتلسكوب، لتثبيت مرآته الثانوية البالغ عرضها 74 سنتيمترًا، وبذلك يرتد الضوء عن المرآة الأساسية المقعرة ليصطدم بالمرآة الثانوية المحدبة، التي تركز الضوء وتعيد إرساله عبر فتحة صغيرة في المرآة الرئيسية ليدخل إلى أدوات التحليل، وبمجرد تركيب المرآة الثانوية، أصبح «ويب» تلسكوبًا عاملًا بالتعريف.
التبريد
حدثت آخر خطوة مهمة في الساعة 10:29 صباحًا بالتوقيت الشرقي للولايات المتحدة يوم الثامن من يناير، حين انتهى تركيب آخر قطعة من المرآة الرئيسية في مكانها، وهذه المرآة شديدة الضخامة لدرجة أنه تعيّن طيّها، مثلها مثل الحاجب الشمسي، لتتسع أعلى صاروخ «آريان 5» Ariane 5 الذي حملها إلى الفضاء عند الإطلاق.
وتضمنت عمليات التركيب الناجحة الأخرى على مدار الأسبوعين الماضيين تركيب جهاز تبريد يُوجِّه الحرارة الزائدة بعيدًا عن الأدوات العلمية للتلسكوب ويتركها في الفضاء.
بعد ذلك، سيقوم التلسكوب بضبط مواقع القطع الثماني عشرة التابعة للمرآة الرئيسية، لمحاذاتها بطريقة تُركِّز الضوء الذي تجمعه على النحو المطلوب، والتلسكوب في حالة تبريد مستمر، حتى يصل إلى درجة حرارة التشغيل، التي تقترب من أربعين درجة مئوية فوق الصفر المطلق، أو سالب 233 درجة مئوية، وتبلغ درجة الحرارة الآن نحو سالب مئتي درجة مئوية على الجانب البارد، خلف الحاجب الشمسي.
وبعد أن يصل التلسكوب إلى نقطة L2 في غضون أسبوعين تقريبًا، سيجري إعداده على مدار خمسة أشهر تقريبًا، قبل البدء في الحصول على نتائج علمية، وتقول نوتا: “لا يسعني الانتظار حتى أرى أول البيانات”.
استغرق تطوير «ويب» ثلاثة عقود، والتهم جزءًا كبيرًا من ميزانيات وكالة ناسا، وشاركت وكالتا الفضاء الأوروبية والكندية في المشروع أيضًا.