كيف حضرت البيئة العربية القديمة في نجوم السماء المعاصرة؟
حكايات عربية.. تداولها الناس للتسلية والعظة قبل آلاف السنين.. سافرت من الجزيرة العربية إلى الاتحاد الفلكي الدولي المعاصر.. عبر سلسلة طويلة من الترجمات تلفت النظر إلى أن المنطقة العربية شهدت يومًا ما نهضة علمية أثرت في العالم كله
“صحبني رجلٌ من الأعراب في فَلاةٍ ليلًا، فأقبلت أسأله عن محالِّ قومٍ من العرب ومياههم، وجعل يدلني على كل محلةٍ بنجمٍ وعلى كل ضِياع بنجم، فربما أشار إلى النجم وسمَّاه، وربما قال لي: تراه، وربما قال لي: ولِّ وجهك نجم كذا”.
بهذه القطعة النثرية يفتتح ابن قتيبة الدينوري -وهو أديب وفقيه عاش في العصر العباسي- كتابَه واسع الشهرة في تراث النجوم عند العرب، المسمى “الأنواء في مواسم العرب”، ومنها يمكن أن نستنتج كيف أدت النجوم دورًا مهمًّا في الحياة اليومية للعرب في الماضي، الأمر الذي دعاهم إلى فهمها فهمًا فطريًّا وكذلك إلى إتقان دراستها، كانت هذه هي طبيعة الأمور، أن تكبر وأنت تعرف عن النجوم، مثلما يكبر الطفل الآن وهو يتعرف على الهواتف الذكية مثلًا، فيصبح مع صغر عمره مُتقنًا للتعامل معها.
ولأن النجوم بدت أبديةً بالنسبة لساكني العالم القديم؛ لأنها فلكيًّا تظهر في المكان نفسه كل عام بلا تغيير، فقد أضفوا عليها درجاتٍ متنوعةً من القدسية والرومانسية، وإن اختلف ذلك باختلاف الشعوب، ويمكن أن نجد هذا واضحًا مثلًا فيما نعرفه الآن باسم كوكبة التنين Draco، والكوكبة كتعريف فلكي هي مجموعة من النجوم تتخذ شكلًا مميزًا في السماء، تلك النجوم لا يتعلق بعضها ببعض ولا تكون في الواقع قريبة بعضها من بعض، ولكنها تظهر لنا كذلك، نحن سكان الأرض.
تنين في السماء
في الأسطورة اليونانية القديمة مثلت الكوكبة تنينًا ذا عينين صفراوين كبيرتين تحميان كنوز زيوس ملك آلهة جبال الأوليمب، اقترب بعض رجال الملك قدمُس من هذا الكهف فقتلهم التنين، فدخل قدمُس في عراك مع التنين وقتله، ثم زرع أسنانه في الأرض فخرج منها مقاتلون أقوياء ساعدوه في بناء مدينة ثيفا، أما زيوس فقد رفع تنينه إلى السماء تمجيدًا له، ولكي يحرس كنوز السماء بدلًا من كنوز الأرض.
ولكن الغريب في الأمر أنك لو قررت أن تتأمل أسماء نجوم الكوكبة الموثقة حاليًّا من قِبل الاتحاد الفلكي الدولي، لوجدت أنها عربية، تتعلق بما رآه العرب قبل آلاف السنين في تلك المنطقة.
السماء بالنسبة للعرب القدماء كانت -ببساطة- بيئتهم التي عاشوا فيها، بما احتوت من حيوانات أليفة ومفترسة، خذ مثلًا العوائذ، وهي مجموعة مكونة من أربعة نجوم تتخذ شكلًا مميزًا وتمثل رأس كوكبة التنين، بالنسبة للعرب مثلت مجموعةً من النوق التفت لتحمي جملًا رضيعًا من الذئاب (والمتمثلة في نجمي الذئبان وأظفار الذئب)، وكذلك الذيح، وهو النجم اللامع الذي مثَّل الضبع.
سُمي هذا الرضيع بالرُّبَع، ويعني طفل الناقة المولود في الربيع، وهو نجم خافت يتوسط العوائذ، لا تراه إلا في ليلة حالكة وإذا كان بصرك حادًّا (لمعان النجم حوالي 5.75، أي على الحدود القصوى لقدرات العينين المجردتين).
إلى جانب الحكاية السابقة، ستجد أحد مظاهر البادية أيضًا حاضرًا في أول نجوم الكوكبة، وسمي “الراقص” Alrakis، والراقص من البعير هو الذي يجري سريعًا، ويمكن كذلك أن تجد في الكوكبة ثلاثة نجوم سمتها العرب قديمًا الأثافي، وكأنها ليست ثلاثة نجوم ظاهرة، بل ثلاث قطع من الصخر وُضعت لتشكل معًا مثلثًا، بين أضلاعه تشعل النار ويوضع فوقها القدر لطهي الطعام، ويقول المثل العربي: “رماه بثالثة الأثافي”، ويُضرب المثل لمَن أصابته مصيبة.
الأسماء المسافرة
يمكن أن تلاحظ بوضوح ارتباط أسماء النجوم الحالية بالقصة العربية القديمة على الرغم من أن الكوكبة نفسها يونانية الاسم والشكل، لذلك سبب يتعلق بتاريخ علم الفلك العربي، فقد بدأ العرب في دراسة سماء الليل حينما ترجمت عدة كتب إلى العربية في العصر العباسي ومنها كتاب “المجسطي” لبطليموس، الذي يُعد مركزًا لعلم الفلك العربي؛ إذ نقل العرب منه، ثم أضافوا إليه وصححوه، وكان مما أضافه العرب إلى المجسطي أسماء النجوم المستوحاة من البادية العربية القديمة، والتي تشبّعت بتراثها.
وحينما انعكست حركة الترجمة بعد عدة قرون من العربية إلى اللاتينية، وكان العرب معروفين في هذا الوقت بالتقدم في كل العلوم وعلى رأسها علم الفلك، فقد تُرجمت كتب عربية مثل “صور الكواكب الثابتة” لعبد الرحمن الصوفي (الفلكي الذي عاش قبل حوالي 1100 سنة ميلادية فيما يُعرف الآن بمدينة شيراز اليونانية)، إلى اللاتينية ونقلت معها أسماء النجوم العربية، وإلى الآن لا تزال تلك النجوم موثقةً في الأطالس الفلكية.
ولأن الترجمة من العربية إلى اللاتينية كانت غير دقيقة (كعادة الترجمة في تلك العصور)، فإن أسماء بعض النجوم كانت معدلة، خذ مثلًا نجمي Aldhiban وAlthebyne في كوكبة التنين، كلاهما صورتان مختلفتان ومحرفتان للتسمية “الذئبان”، يمكن كذلك أن تتأمل نجم Alsafi، وهو من “الأثافي”، أما الذيح فكان قريبًا قليلًا من تسميته العربية حينما كتب Edasich، كثيرًا ما ستلاحظ أن النقل اللاتيني من العربية كان معدلًا، وربما ضاعت نقطة هنا أو هناك فقلبت الاسم تمامًا.
ولأن العرب قديمًا كانت لهم سيطرة في نطاق العلوم، فإن أسماء بعض النجوم ارتبطت باليونانية، ولم تكن عربيةً أصلًا، إلا أن الأوروبيين حولوها إلى العربية، كنجم التنين مثلا Eltanin، كذلك ستجد أن نجم الثعبان Thuban لا يرد اسمه في التراث العربي أصلًا، ما يشير إلى أنه قد يكون بالكامل من تأليف أجنبي، بمعنى أن الأوروبيين أطلقوا اسمًا عربيًّا على هذا النجم؛ لأن اللغة العربية كانت آنذاك لغة الاصطلاحات الفلكية.
سعد الذي شغل السماء
تسعة نجوم في كوكبة واحدة فقط، امتلكت اسمًا عربي الأصل، ويمكن أن تلاحظ ذلك في كل الكوكبات، لكن دعنا الآن ننتقل إلى حكاية تراثية عربية قديمة حضرت في 10 نجوم أخرى بالاسم الواضح، تقول الحكاية إن أحد أمراء البادية ويدعى سعدًا، قرر السفر مع جمع من رجاله خلال فصل الشتاء، وقبل السفر نصحه والده بذبح ناقته إذا هبت الرياح الباردة.
بعد أن قطع بطل القصة نصف الطريق تغير الجو على نحوٍ مفاجئ وأصبح باردًا جدًّا وهطلت الأمطار والثلوج بغزارة، هنا نفذ سعد نصيحة والده وذبح الناقة واحتمى بأحشائها، ومن هنا جاء اسم “سعد الذابح”، بعد أيام، شعر سعد بالجوع ولم يكن أمامه إلا أن يأكل من لحم الناقة، وبذلك أصبح “سعد بلع”، وبعد أن انتهت البرودة والمطر وأشرقت الشمس فرح سعد واحتفل بنجاته فأصبح “سعد السعود”، وقام سعد بصناعة معطف من وبر الناقة وأخذ من لحمها المتبقي في جعبته، خوفًا من أن يأتي البرد مرةً أخرى، وسُمي بذلك “سعد الخبايا”.
وتنطوي قصة “سعد” على معارف فلكية ومناخية؛ إذ تمضي في 50 يومًا متتالية، تبدأ من فبراير وتصل إلى مارس، وهي فترة يتغير فيها الطقس من الشتاء إلى الربيع، وتتسم بالتقلبات الجوية، فتارةً يكون الطقس حارًّا وتارةً يكون باردًا، وكان العرب قديمًا يتحوطون لتلك الفترة، فلا يخففون ملابسهم ولا يخرجون للسفر إلا فيما ندر.
قسم العرب السنة إلى 28 موسمًا مناخيًّا، كلٌّ منها يمر في حوالي 13 يومًا، وكلٌّ منها له ظرف مناخي محدد، وبالتبعية يؤثر ذلك على ملبس الناس وطعامهم وزراعتهم وحركاتهم في الصحراء قديمًا، ولأن النجوم تتغير كل سنة بتغيُّر الفصول، فقد ربط الناس بين الظروف المناخية ومجموعة محددة من النجوم، وقد حضرت نجوم السعود في عدة مواضع بسماء الليل المعاصرة، توجد منها السعود الأربعة المتعلقة بحكاية سعد في كوكبتي الجدي والدلو.
صورة كوكبة الدلو في كتاب صور الكواكب الثابتة
في كوكبة الجدي تجد نجم الذابح Dabih الذي يشير إلى سعد الذابح، وإلى جواره تجد نجم الشاة Alshat، وهي إشارة إلى الناقة التي ذبحها سعد، وفي كوكبة الدلو ستجد في الأطالس نجومًا معاصرة تحل اسم سعد بلع Albali وسعد السعود Sadalsuud وسعد مالك Sadalmelik وسعد الأخبية Sadachbia، يعني ذلك ببساطة أن حكاية عربية قديمة، تداولها الناس للتسلية والعظة قبل آلاف السنين، قد سافرت من الجزيرة العربية إلى الاتحاد الفلكي الدولي المعاصر، عبر سلسلة طويلة من الترجمات أشارت إلى أن هذه المنطقة من العالم شهدت يومًا ما نهضة حضارية مثلت علامةً في تاريخ العلم.