الثقوب السوداء وحوش غير مرئية.. هل هناك أدلة علمية على وجودها؟
من بين جميع المفاهيم الغريبة في علم الفلك، قد تكون الثقوب السوداء الأغرب على الإطلاق؛ فهي مساحة في الفضاء تكون فيها المادة معبأة بإحكام بحيث لا يمكن لأي شيء -ولا حتى الضوء نفسه- الهروب منها.
ومع انهيار كل قوانين الفيزياء الطبيعية داخلها فمن المغري النظر إلى الثقوب السوداء بوصفها مادة من الخيال العلمي، ومع ذلك هناك كثير من الأدلة المباشرة وغير المباشرة على أنها موجودة بالفعل في الكون، وفقا لتقرير موقع “لايف ساينس” (Live Science) العلمي.
“التنبؤ القوي” لأينشتاين
كاحتمال نظري، تنبأ كارل شوارزشيلد بوجود الثقوب السوداء عام 1916، بوصفها نتيجة حتمية لنظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين. وإذا كانت نظرية أينشتاين صحيحة، وكل الأدلة تشير إلى أنها صحيحة بالفعل، فلا بد من وجود الثقوب السوداء.
ووفقا لجامعة كمبريدج، فقد أظهر كل من روجر بنروز وستيفن هوكينج بعد ذلك أن أي جسم ينهار إلى ثقب أسود سيشكل حالة فردية تنهار فيها القوانين التقليدية للفيزياء.
وأصبح هذا مقبولا على نطاق واسع؛ لدرجة أن بنروز حصل على نصيب في جائزة نوبل في الفيزياء عام 2020 “لاكتشافه أن تشكّلَ الثقوب السوداء هو تنبؤ قوي للنظرية النسبية العامة”.
انفجارات أشعة جاما
ووفقا لوكالة ناسا، فإنه في ثلاثينيات القرن الماضي نظر عالم الفيزياء الفلكية الهندي سوبرامانيان شاندراسيخار إلى ما يحدث للنجم عندما يستهلك كل وقوده النووي، ووجد أن النتيجة النهائية تعتمد على كتلة النجم.
فإذا كان هذا النجم كبيرا حقا -على سبيل المثال 20 كتلة شمسية- فإن قلبه الكثيف الذي قد يكون في حد ذاته أكبر 3 مرات أو أكثر من كتلة الشمس ينهار مباشرة إلى ثقب أسود.
ويحدث الانهيار النهائي للنواة بسرعة مذهلة في غضون ثوان، ويطلق كمية هائلة من الطاقة على شكل انفجار أشعة جاما، ويمكن لهذا الانفجار أن يشع قدرا من الطاقة في الفضاء يماثل ما ينبعث من نجم عادي طوال حياته.
ورصدت التلسكوبات الموجودة على الأرض العديد من هذه الانفجارات -التي يأتي بعضها من مجرات تبعد بلايين السنين الضوئية- حتى نتمكن من رؤية الثقوب السوداء وهي تولد.
موجات الجاذبية
الثقوب السوداء لا توجد في حالة منفردة دائما، فأحيانا تحدث في أزواج، إذ يدور ثقبان أسودان حول بعضهما البعض. وعند ذلك يُحدث تفاعل الجاذبية بينهما تموجات في “الزمكان”، وتنتشر للخارج على شكل موجات جاذبية، وهو أحد التوقعات الأخرى لنظرية النسبية لأينشتاين.
ومع وجود مراصد -مثل مرصدي موجات الجاذبية بالليزر “ليجو” و”فيرجو”- أصبحت لدينا القدرة على اكتشاف هذه الموجات. وتم الإعلان عام 2016 عن الاكتشاف الأول لتموجات في “الزمكان” المعروفة باسم موجات الجاذبية، الذي اشتمل على اندماج ثقبين أسودين، وكان ذلك كشفا بالغ الأهمية لدرجة جعلته جديرا بجائزة نوبل في الفيزياء عام 2017.
الرفيق غير المرئي
إن الثقوب السوداء بحكم طبيعتها غير قابلة للكشف؛ فحقيقة أنها لا تصدر أي ضوء أو إشعاع آخر تعني أنها يمكن أن تكون كامنة في جوارنا في الكون دون أن يدرك علماء الفلك ذلك. الطريقة المؤكدة الوحيدة لاكتشاف تلك الوحوش المظلمة تكون من خلال تأثيرات الجاذبية التي تمارسها على النجوم الأخرى.
وعند مراقبة نظام ثنائي من النجوم المدارية عادية المظهر -المعروف باسم “إتش آر 6819” عام 2020- لاحظ علماء الفلك شذوذا في حركة النجمين المرئيين لا يمكن تفسيره إلا إذا كان هناك جسم ثالث غير مرئي يؤثر عليهما.
وعندما قاموا بحساب كتلته، وجدوا أنه على الأقل 4 أضعاف كتلة الشمس، وبالتالي عرف الباحثون أنه لا يوجد سوى احتمال واحد؛ أن يكون ثقبا أسود، وهو الثقب الأسود الأقرب حتى الآن إلى الأرض، ويقع على بعد ألف سنة ضوئية داخل مجرتنا.
رؤية الأشعة السينية
ظهر أول دليل رصدي لثقب أسود عام 1971، وجاء هذا أيضا من نظام نجمي ثنائي موجود داخل مجرتنا، يسمى Cygnus X-1، ينتج هذا النظام بعضا من ألمع الأشعة السينية في الكون، والتي لا تنبع من الثقب الأسود نفسه، أو من النظام النجمي الثنائي المرئي المرافق له، والذي وفقا لوكالة ناسا تبلغ كتلته 33 ضعف كتلة شمسنا.
ما يحدث هو أنه يتم تجريد المادة باستمرار من النجم العملاق ويتم سحبها إلى قرص تراكم حول الثقب الأسود، ومن قرص التراكم هذا تنبعث الأشعة السينية.
كما فعل علماء الفلك مع النظام النجمي الثنائي HR 6819، فإنه يمكنهم أيضا هنا استخدام حركة النجوم المرصودة لتقدير كتلة الجسم غير المرئي الذي يؤثر على Cygnus X-1. وأفادت أحدث الحسابات بأن هذا الجسم المظلم غير المرئي يصل إلى 21 كتلة شمسية مركزة في مساحة صغيرة؛ وهذا لا يمكن أن يكون أي شيء آخر غير ثقب أسود.
الثقوب السوداء الهائلة
بالإضافة إلى الثقوب السوداء التي نشأت من خلال الانهيار النجمي، تشير الدلائل إلى أن الثقوب السوداء الهائلة -التي تتكون من ملايين أو حتى بلايين من الكتل الشمسية- كانت كامنة في مراكز المجرات منذ وقت مبكر من تاريخ الكون.
ووفقا لوكالة ناسا، فإن الثقوب السوداء المركزية في هذه المجرات النشطة محاطة بأقراص تراكمية تنتج إشعاعا شديدا في جميع الأطوال الموجية للضوء.
ويوجد لدينا دليل أيضا على أن مجرتنا بها ثقب أسود في مركزها؛ إذ يرى العلماء أن النجوم في تلك المنطقة تدور بسرعة كبيرة، تصل إلى 8% من سرعة الضوء، ولا بد أن تدور حول شيء صغير وضخم للغاية. وتشير التقديرات الحالية إلى أن الثقب الأسود المركزي لمجرة درب التبانة يقارب 4 ملايين كتلة شمسية.
التحول إلى سباغتي
دليل آخر على وجود الثقوب السوداء هو “سباغيتيتيفيشن” (Spaghettification). وهو ما يحدث لك عندما تسقط في ثقب أسود، حيث تتمدد إلى خيوط رفيعة تشبه معكرونة “الإسباغيتي” بفعل قوة الجاذبية الشديدة للثقب الأسود. بالطبع فإنه من غير المحتمل أن يحدث هذا لك أو لأي شخص آخر، ولكن ذلك قد يكون مصير نجم يتجول بالقرب من ثقب أسود هائل.
في أكتوبر 2020، شهد علماء الفلك هذا النوع من التمزيق، أو على الأقل رأوا وميضا من الضوء من نجم سيئ الحظ عندما تمزق. كان ذلك في مجرة تبعد عنا 215 مليون سنة ضوئية.
وأخيرا صورة مباشرة
كل الأدلة السابقة غير مباشرة، ولكنها مقنعة على وجود الثقوب السوداء، لكن الخبر اليقين جاء في أبريل/نيسان 2019، في شكل صورة مباشرة للثقب الأسود فائق الكتلة في مركز مجرة “ميسييه 87” (Messier 87).
تم التقاط هذه الصورة المذهلة بواسطة تلسكوب “أفق الحدث”، الذي يتكون من شبكة كبيرة من التلسكوبات المنتشرة في جميع أنحاء العالم.
ووفقا لوكالة ناسا، فكلما زاد عدد التلسكوبات التي يمكنها المشاركة، وكلما تباعدت المسافات بينها؛ كانت جودة الصورة النهائية أفضل. وتظهر النتيجة بوضوح الظل الداكن للثقب الأسود الذي تبلغ كتلته 6.5 مليارات كتلة شمسية، كما تظهر التوهج البرتقالي لقرص التراكم المحيط به.